نشأة الشعر وتطوره

- نشأة الشعر وتطوره

 من أصعب المهمات على الإطلاق تتبع إنَّ ولادة الشعر وفطامه ونشأته، فعندما وصل إلينا هذا الفن كان مخلوقًا سويًا تجاوز مرحلة الطفولة، والشعر مثله مثل الفنون الأخرى نشأ بدافع من حاجة الإنسان إليهاللتعبير عن مشاعره وأحاسيسه وهمومه، وهذه الحاجة إلى التعبير عن مكنونات الإنسان هي حاجة غريزية تخلق معه، وترتقي كلما ارتقى وارتقت حاجاته ..
ولدراسة نشأة الشعر العربي ، دراسة مستفيضة وشاملة لجوانب هذا الفن السامي ، الذي يعتبر من أول ما أبدع فيه العرب ، يجب علينا النظر في أقوال العلماء الذين تحدثو عن الشعر وجوانبه . ومنهم  أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ، إعتبر الجاحظ ومن ذهب مذهبه من علماء النقد ومؤرخي الأدب ، أنَّ الشعر حديث الأصل والنشأة وبدايته مع امرئ القيس بن حجرومن عاصره ، وهذا يعني أنَّ الشعر العربي بدايته مع العصر الجاهلي . اي مائة وخمسون سنة قبل قبل الإسلام ، قال محمد البهبيتي في كتابه - تاريخ تاريخ الشعر العربي -  : " ومع ذلك فهو يقول (الجاحظ) : ( وأما الشعر [ويقصد به العربي] فحديث الميلاد ، صغير السن ، أول من نهج سبيله ، وسهل الطريق امرئ القيس بن حجر ، ومهلهل بن ربيعة ... فإذا إستضهرنا الشعر وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام  خمسين ومائة عام ، وإذا استظهرنا بغاية الإستظهار فمائتي عام )" (1) . لكن محمد البهبيتي ينتقد موقف الجاحظ في كون الشعر حديث النشأة ، وربط البهبيتي الشعر العربي بالمعمار والبنيان العربي مستنتجا أن الشعر العربي أقدم مما نتصور فقال : " والحق أن العرب لم يعتمدوا منأقدم عصور تاريخهم على القصيدة العربية فحسب كما وهم الجاحظ ، فمأرب وصنعاء ومعابد اليمن واليمامة والحظرة والساطرون ، ومعابد شبه الجزيرة التي ذكرها ديودورس واسترابون وغيرهما ، كل أولئك أقدم بكثير من التاريخ الذي يضربه الجاحظ موعدا لمولد القصيدة العربية بصورتها المعروفة لنا اليوم " (2) .
وعاد محمد البهبيتي ليعطي حجة أكثر قوة على أقدمية الشعر العربي فقال : " ثم إن النمو الطبيعي للقصيدة العربية ، أوزانها وموضوعاتها ، واللغة ونحوها وأساليبها ، وإيجازها ، يستدعي أن تكون مرت قبل زمن امرئ القيس بأطوار كثيرة ، وتعثرت تعثرات جمة حتى اكتمل لها هذا الشكل الذي نجدها عليه في شعر امرئ القيس ومن سبقه أو جاء بعده " (3) .
___________
(1) : نجيب محمد البهبيتي ، تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري ، دار الثقافة ، الدار البيضاء 1982 ، ط:4 ص4 ،خ.ك.ل.ع.م
(2) : م.ن : ص ص 4-5
(3) م.ن : ص 5
محمد البهبيتي يؤكد هنا على أن القصيدة العربية برقيها وسموها وأوزانها وكل ضوابطها ، ما كانت لتصلنا بهذه الصورة لولا تجارب مرت قبل امرئ  القيس ، بتعثراتها واخطائهاحتى اكتملت في زمن امرئ القيس . ويمكننا الإتفاق بشكل كبير في قول البهبيتي : " لا ريب في أن القصيدة العربية أقدم ميلادا وأعرق نشأة مما صوره الجاحظ ومن ذهب مذهبه من علماء النقد ومؤرخي الأدب " (1) .
   كانت القرون الخمسة السابقة للإسلام زاخرة بالإضطرابات والحروب والخصوم التي كان لها أثر في حياة العرب ، قال محمد البهبيتي : " هذه الأحدات الجسام ، وهذه الإضطرابات الكبرى، وهذه الإختلافات بين العرب بعضهم وبعض تجري فيها الدماء أجيالا متلاحقة ، وهذا التقهقر الاقتصادي الناشئ عن التحول التجاري عن طرق قلب الجزيرة ، وسقوط دول وقيام دول ..." (2) . هذه الخصومات كان لها أثر إجابي على الشعر الجاهلي ، والتي جعلته يسمو ويرتقي بأدائه . قال البهبيتي : [ أثر ذلك في الشعر – وقد ترتب على ذلك أمور - ؛ أولها : أننا نجد أنفسنا أمام شعر أرستقراطي ، يتصل بكبريات مسائل الحياة في الجزيرة العربية . ثانيها : أنه لمّا كان هذا الشعر من قول هذه الطبقة الممتازة الرفيعة جاء هو الآخر ممتازا رفيعا ، في صياغته ومبانيه ... ثالتها : أن هذا الشعر قد احتفظت منه البيئة بذلك القدر الذي يمكن أن يتاح لها الاحتفاض به في ظروفها التي كانت تعيشها إذ ذاك ] (3) .
  بعدما استقرت حالة الشعر والشعراء في العصر الجاهلي ، لم يكن الشعراء الجاهليين ينظمون قصائدهم هزلا أو إزجاء الفراغ أو شيئ من هذا القبيل ، كما يعتقد الكثير ، إنما وضع الأغراض في غاية الأهمية تصور لنا ذلك العهد تصويرا دقيقا مباشرا ، ذكر البهبيتي هذا الأمر في كتابه حيث قال : [ فالشعر الجاهلي ليس هزلا من الهزل ، وليس رغاء جماعة من البداة المتعجرفين طابعهم العنجهية ، ونظام حياتهم بداتي قبلي تنعدم فيه مظاهر النظام القبلي تنعدم فيه مظاهر النظام الجتماعي القيم الذي تميز به حياة الأمم ، المتحضرة ... وإنما هو اللباب الفد حياة أمة فدة . هو العمدة التاريخية العربية الأولىفي تصوير حياة العرب بأيديهم ، في ذلكالعهد تصويرا مباشرا ، إذا عرضته على التاريخ العام إستجاب له ، وإن عرضته على النقد اللغوي إستجاب له ، وإن عرضته على تاريخ الحظارة إستجاب له ] (4) .
وبعد إستقرار الشعر الجاهلي ، وتطور معناه وعلو شأنه ، وفصاحة لغته ،جاء دين الحق الإسلام ، " فأخرج العرب من ظلمات حياتهم  الجاهلية الوثنية المادية الى أضواء حياة روحية سماوسة تعنو فيها الوجوه للحي القيوم الذي خلق السموات والأرض وما
___________
(1) م.ن : ص 5
(2) م.ن : ص 44
(3) ينظر ، م.ن : ص 45
(4) ينظر ، م.ن : ص 46



بينهما ، إنه قوي عزيز وسعت قدرته ورحمته كل شيئ " (1) . فتبت الإسلام في قلوب
بعض العرب ، فوضعو الجنة والنار أمام أعينهم ، ونزل قول الله عزَّ وجل : { والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون ، إلا الذين آمنو وعملوا الصالحات وذكرو الله كثيرا } (2)  . " وواضح أن القرآن الكريم إنما يهاجم الشعراء الوثنيين ، أما الذين اتبعوا هديه وآمنوا برسوله فإنه يستثنيهم ، بل إن الرسول  ( صلى الله عليه وسلم ) ليدفعهم دفعا الى نصرته " (3) . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لحسان بن ثابت : " اهج قريشا فوالله لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام ، اهجهم ومعك جبريل روح القدس " (4) .  وهكذا اتخد الشعر العربي في العصر الإسلامي الطابع الديني لكن مع نفس الرقي الذي كان به الشعر في العصر الجاهلي .
  بعد العصر الإسلامي وما عرفه الشعر من تغييرات وتطورات ، جاء العصر الأُموي بأفكار جديدة في الشعر ومواضيع مختلفة ، إلا أنه ببقي متمسك بالطابع الديني ، إلا أنه أضاف شيئا وهو الحياة العقلية . " وكان من آثار ذلك أن انبتقت في هذا العصر حركات تعليمية كثيرة " (5) ، وأصبح الشعر يعلَّم ويدرس  ، [ وتوالت العصور بعد العصر الأُموي كالعصر العباسي والعصر الأندلوسي ، فأثمر الشعر العباسي أبا تمام وأبا نواس والمتنبي وأبا العلاء ، وتوفر في الأندلس فأثمر الموشحات ] (6) . وكانت هذه العصور بمثابة العصور الذهبية في الشعر العربي ، لكن بعد هذا السمو والعلو والإرتقاء بالشعر ، بيانه وبلاغته وفصاحته وأوزانه وطبعه وصنعته ومحسناته ...، ثلاها عصر أطلقوا عليه النقاد بعصر الإنحطاط ، تميز هذا العصر بموت في المعاني وردائة في الألفاظ فدخل الشعر في نفق مظلم ، فقد فيه الشعر نوره  وبيانه . ودامت هذه الفترة مدة تقدر بسبعة  قرون . بعد هذا الركود والسبات في الشعر العربي ، جاءت مرحلة تستوقفنا بالتفصيل والإيضاح ، الأنها كانت نقطة تحول مسار الشعر . وهذه المرحلة هي المرحلة الإحيائية ، أو شعر البعث ، أو محاكاة الأقدمين ، " تنحصر مهمة شعراء البعث في أنهم نفضوا عن الشعر العربي ما علق به من رواسب عصور الإنحطاط ، بأن ولوا وجوههم نحو القصيدة في تلك الفترة العربية التي إزدهر فيها الشعر ، ووصل ذروة  صفائـــه ونضجــه . ولقد بلغوا من ذلك مرادهم ، حتى أصبح من اليسير على الناظر في دواوينهم ، أن يتذوق نكهة الشعراء العباسيين والأندلوسيين،
___________
(1) الدكتور شوقي ضيف ، التطور والتجديد في الشعر العربي ، دار المعارف ، مصر ، ط4 1119 ، ص11 . خ.ك.ل.ع.م
(2) سورة الشعراء ، الأيات : 224-225-226-227
(3) شوقي ضيف ، التطور والتجديد في الشعر العربي ، ص 13
(4) : العمدة ، الإبن رشيق القيرواني ( طبعة القاهرة سنة 1920 ) ج1 ص12.
(5): التطور والتجديد في الشعر العربي ص 71
(6) ظاهرة الشعر الحديث ، أحمد المعداوي – المجاطي ، شركة النشر والتوزيع المدارس ، الدار البيضاء ، ط3، 1429-2008، ص6

لا في القصائد التي تعمد فيها شعراء البعث أن يعارضوا أسلافهم من الشعراء ،  بل في معضم قصائدهم مهما اختلفت موضوعاتها ومناسباتها " (1)، لكن هذه الضرورة زالت بعد أن أزيح شعار العودة إلى الثرات ، ليقوم مقامه شعار آخر ، هو البحث عن الداث الفردية وتوكيدها فكان على شعراء هذا التيار أن يستجيبوا للنداء الجديد وهو التيار الذاتي ، " بدأ الإتجاه إلى الذات يصبغ المضامين الشعرية الحديثة مند ضهور جماعة الديوان ، ولكنه لم يتبلور إلا من خلال جهودتيار الرابطة القلمية وتيار جماعة أبولو"(2) هذه الجماعة كانت الأساس الذي بني عليه هذا التيار الذي تتعدد أسمائه ، منهم من يسميه الرمانسي ومنهم من يسميه الوجداني ومنهم من يسميه الذاتي ، رغم إختلاف  التسميات والعصور ، فإن الشكل العام للقصيدة العربية ضل كما هو بنظام الشطرين مع إختلافات بسيطة في القافية وغيرها ، إلى الشعر الرمانسي  ، وسيعرف الشعر تغييرا كبيرا شكلا ومضمونا ، [ وهذا بفعل عوامل متعددة منها : تأثر الشعراء العرب بالثقافة الغربية ، وساعد على ذلك كثرة المترجمين ، والمتقفين ، والمهتمين بالتقافة الغربية ، كما أن زرع جسم غريب داخل قلب فلسطين ، أو ما سمي بالنكبة الفلسطينية، أدى إلى تغيير نظام القصيدة العربية] ، وهو الذي يوجد في يومنا هذا فخالفت الشكل القديم ، وجاءت القصيدة على شكل أسطر شعرية ، سميت بشعر التفعلة أو الشعر الحر، أو الشعر الحديث ، تخلص فيها الشاعر من كل قيود الشعر القديم شكلا ومضـــــــــمونــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا



                                                                       



____________
(1) م.ن : ص 10
(2) م.ن : ص19
(3) ينظر ،م.ن : ص ص 22-23



ليست هناك تعليقات

جميع الحقوق محفوضة لدى موقع لنستيقظ. يتم التشغيل بواسطة Blogger.